التهجير "الطوعي" في غزة- تدمير ممنهج ومستقبل مجهول

لمّا تنتهِ الحربُ بعد، ولم يستطع أيٌّ من الطرفين تحديدَ مساراتها الختاميةِ رغمَ طولِ أمدِ الصراع. المسارُ الوحيدُ الجليُّ للعيان، والذي تؤكده الإحصاءات والمشاهدُ المؤلمةُ التي تغصُّ بها الشاشات، هو الدمارُ الشاملُ الذي طال البنى التحتية، وتحويلُ غزة إلى مكانٍ لا يمكنُ العيشُ فيهِ على المدى القريب، بل ربما المتوسطِ أيضًا.
لم يُحسمْ بعدُ مصيرُ القضاءِ على حركةِ حماسَ وجناحها العسكري، ولم يُعرفْ مصيرُ الأسرى من كلا الجانبين، كما لم يتقررْ مصيرُ نتنياهو الذي لا يزال يجدُ لنفسهِ الوقتَ والدعمَ الكافيين للاستمرارِ في عملياتِ الإبادةِ الممنهجة. كذلك، لم يتضحْ الموقفُ الأميركيُّ تمامًا، فرغم الضغوطِ الظاهريةِ على نتنياهو، إلا أنه يحظى بدعمٍ متواصلٍ، تجسدهُ الفيتوهات المتكررة في مجلس الأمن.
بالمثل، لم يُحسم مصيرُ غزة في مرحلةِ ما بعدَ الحرب، ولا حتى السيناريوهاتُ المحتملةُ لما قبلها. ولم يكتب النجاحُ لمشروعِ التهجيرِ القسري الذي ظهر كأحدِ أولِ المشاريعِ المطروحةِ خلالَ الحرب، والذي قد يظلُّ عالقًا في الأذهانِ كآخرِها.
عقيدة راسخة
لا يمكنُ الجزمُ بأن مشروعَ التهجيرِ قد فشلَ أو أُفشلَ بشكلٍ قاطع. فالإراداتُ السياسيةُ الإقليميةُ لم تتبلورْ بعدُ في إجماعٍ حاسمٍ على رفضِ هذا المشروع، والأمرُ الأكثرُ خطورةً هو احتمالُ عجزِ هذه الإراداتِ عن مواجهةِ المشروعِ إذا ما اتخذَ مسارًا مختلفًا عما عرضتهُ القياداتُ الغربيةُ على مصر في بدايةِ الحرب.
من الضروري استحضارُ فكرةِ التهجيرِ كعقيدةٍ سياسيةٍ وهدفٍ استراتيجي سعتْ إليهِ معظمُ الحكوماتِ الإسرائيليةِ المتعاقبة، وأنها فكرةٌ متأصلةٌ في فكرِ اليمينِ الصهيوني.
هذا الاستحضارُ يستدعي السياقَ التاريخي لفكرة "التهجير الطوعي" التي تحدث عنها نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما ذكرت صحيفة إسرائيل اليوم.
بدايةً، يجبُ التوضيحُ بأنه لا يوجدُ ما يُسمى تهجيرًا طوعيًا. فالتعبيرُ ذاتهُ يحملُ تناقضًا بيّنًا، إذ أن فعلَ "التهجير" ينطوي على إكراهٍ يتنافى مع جوهرِ الحريةِ والاختيار، خاصةً عندما يكونُ الاستعمارُ الاستيطانيُّ الصهيونيُّ هو الطرفَ الفاعلَ.
إن فكرة "التهجير الطوعي" هي استعادةٌ لمشهدِ ما بعدَ الحربِ، وليسَ للحربِ ذاتها. فبعدَ مضيِّ أربعةِ أشهرٍ على التدميرِ الوحشي الذي لحق بلبنانَ في اجتياحِ عام 1982م، والحصارِ الخانقِ لمدينةِ بيروت الذي أودى بحياةِ ما يقربُ من 1% من سكانِ المدينةِ البالغِ عددهم آنذاك حوالي 620 ألف نسمة، تركَ الاحتلالُ اللبنانيَ ومخيماتِ اللاجئين في حالةٍ يرثى لها. تفاقمتْ معاناةُ المخيماتِ بشكلٍ كبيرٍ في خضمِ الحربِ الأهليةِ التي تلت ذلك، ولم يتحققْ إعمارُ لبنانَ إلا بعد اتفاقِ الطائفِ عام 1989م.
خلال هذه الفترة، نزحتْ عشراتُ الآلافِ من العائلاتِ الفلسطينيةِ من لبنانَ باتجاهِ أوروبا على وجهِ الخصوص. وبحلولِ منتصفِ التسعينيات، انخفضتْ أعدادُ الفلسطينيينَ في لبنانَ بمعدلٍ يقاربُ النصفَ.
تهجير طوعي
في عام 2017م، أجرت الحكومةُ اللبنانيةُ أولَ إحصاءٍ رسمي للفلسطينيين، وأعلنت عن رقمٍ مذهلٍ مفادهُ وجودُ 174 ألفًا فقط من فلسطينيي لبنان، من أصلِ أكثرَ من نصفِ مليونٍ مسجلين في سجلاتِ الأونروا.
شككتْ جهاتٌ عديدةٌ في دقةِ هذا الإحصاء، ولكن حتى مع الأخذِ بالجدلِ والنقاشِ، فإن الأرقامَ المقدرةَ كانتْ تقلُّ عن نسبةِ 50% من سكانِ لبنانَ الفلسطينيينَ المسجلين.
لقد أُجبرَ الفلسطينيونَ على البحثِ عن سُبلِ نجاتهمْ بأنفسهم، ودونَ أن تتحملَ أيةُ دولةٍ (باستثناء إسرائيل) عبءَ ومسؤوليةَ التورطِ في التهجيرِ والتوطين. هذا النوعُ من التهجيرِ القسري تسميه حركة الليكود - التي قادت الحربين (اجتياح لبنان 82 وحرب غزة 23) – "تهجيرًا طوعيًا"، وهي تسميةٌ يمكنُ فهمها في سياقِ الاستعلاءِ الاستعماري للمستوطنين.
لقد صرح نتنياهو حينها بأن المشكلة لا تكمن في الفكرة ذاتها، بل "مشكلتنا في الدول المستعدة لاستيعاب اللاجئين". هنا يبدو الأمر وكأن المشروع يتألف من شقين أساسيين: أولهما تحويل فكرة التهجير إلى واقع ملموس، من خلال التدمير الممنهج لكل مقومات الحياة في غزة، وثانيهما -وهو الشق المؤجل حاليًا- يتعلق بتحديد وجهة هؤلاء المهجرين، أي ترك الأمر للمنكوبين ليختاروا بأنفسهم وجهتهم النهائية.
نتائج ليست محسومة
لقد أنجز نتنياهو الشق الأول بنجاح، والمتمثل في تدمير قطاع غزة وتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش. لقد قام بمنع كافة مصادر الحياة الأساسية، مثل الماء والكهرباء، مما جعل الحياة مستحيلة، ولم يترك للإنسان خيارًا سوى التفكير في الرحيل والبحث عن مكان آخر.
وهنا يحاول نتنياهو مقاربة حربه هذه بحرب بيغن وشارون في عام 1982، بهدف إعادة إنتاج المشهد ذاته لما بعد الحرب. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن النتائج محسومة، وأن التاريخ يعيد نفسه بشكل حتمي، فالدوافع التي تحرك هجرة أبناء الوطن تختلف عن تلك التي تحرك جماعات سكانية ذات ارتباط مؤقت بالمكان، مثل اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان.
ومع ذلك، يظل التهجير هو المشروع الأقرب إلى التحقق في هذه الحرب، بافتراض أن الشق الأول المتعلق بالتدمير قد اكتمل. ويصبح هذا الافتراض أكثر خطورة إذا لم يشهد قطاع غزة بعد الحرب عملية إعادة إعمار عاجلة وسريعة.
ويجب أن ندرك أن حروبًا كهذه ستربط عملية الإعمار بالإرادات الإقليمية والدولية، والتي تتشكل بدورها باستكمال الإجابات الشاملة، والتي لا تبدو واضحة المعالم في الوقت الراهن.
لذا فإن التفكير في إعادة إعمار غزة بعد الحرب لا يقل أهمية عن المطالبة بوقف الحرب الآن. فخلافًا لذلك، قد يعني انتهاء الحرب البدء في تنفيذ الشق الثاني من مشروع "التهجير الطوعي"، والذي لن يكلف الاحتلال الكثير مقارنة بتكاليف الحرب الباهظة.
لقد كانت فكرة التهجير حاضرة في تكتيكات الحصار الذي فرض على غزة طوال السنوات السبع عشرة الماضية. فقد شهد القطاع أعلى معدلات هجرة في تاريخه خلال تلك الفترة. وذكرت العديد من التقارير والدراسات أن نسبة المغادرين للقطاع كانت طوال تلك الفترة أكبر من نسبة الوافدين.
حتى هذه اللحظة، يبدو مشروع التهجير واردًا بقوة، وإيقافه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإمكانية وسرعة إعادة الإعمار في القطاع.
ومن ناحية أخرى، يرتبط هذا الأمر بانعزال غزة عن الضفة الغربية، وعدم قدرة الضفة على تقديم نفسها كبديل مؤقت لأسباب عديدة، بعضها يتعلق بالاحتلال، والبعض الآخر باستمرار حالة الانقسام السياسي، على الرغم من كل الظلال التي تلقيها الحرب على الجميع.
برامج استقدام
خلال هذه الحرب، اتخذت كل من كندا وأستراليا خطوات لإنشاء برامج استقدام إنساني في إطار عائلي أو تأشيرات مؤقتة، وقد وصل بالفعل عدد يقدر بالمئات حتى الآن. وهذه الدول، التي تتميز بمساحات شاسعة مقارنة بعدد سكانها، كانت قد رشحت من قبل مسؤولين إسرائيليين لتكون شريكًا في مشروع التهجير المطروح بصيغته الأولية في بداية الحرب.
لكن الإشارة إلى هذه الدول قد يكون الهدف منها هو تقليل مخاوف الاتحاد الأوروبي، المرشح الأكبر لمواجهة موجة هجرات قادمة، قد تكون مماثلة لتلك التي شهدتها القارة في منتصف العقد الماضي بسبب الحرب والانتهاكات الإنسانية في سوريا.
إن وقف الحرب، الذي يُعد مطلبًا ملحًا في كل لحظة لإنقاذ أرواح الأبرياء، لن يمحو التداعيات المروعة للفظائع التي ارتُكبت بوحشية يشهدها التاريخ اليوم ويوثقها كواحدة من أبشع المحطات الإنسانية، والتي شهدت فشلًا متعمدًا للعدالة الدولية.
إنها حرب ارتُكبت بمستويات عسكرية غير مسبوقة، وبغطاء دولي استثنائي، وبعجز عربي وإقليمي غير معهود. وبذلك، فإنها ستفرض مرحلة لاحقة صعبة، قد يدفع ثمنها الجميع، بعد أن تحمل أبناء غزة وحدهم عبء صمودهم على أرضهم طوال هذه الفترة.
